فصل: تفسير الآيات (1- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة الشعراء:

هي مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل: منها مدني، الآية التي يذكر فيها الشعراء، وقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ}. وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ} إلى آخرها. وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: ست وعشرون. وعن ابن عباس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه وطسم من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة». وعن البراء بن عازب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المبين مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي».

.تفسير الآيات (1- 9):

{طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}
قوله تعالى: {طسم} قرأ الأعمش ويحيى وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف بإمالة الطاء مشبعا في هذه السورة وفي أختيها. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الباقون بالفتح مشبعا. قال الثعلبي: وهي كلها لغات فصيحة. وقد مضى في طه قول النحاس في هذا. قال النحاس: وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي: {طسم} بإدغام النون في الميم، والفراء يقول بإخفاء النون. وقرأ الأعمش وحمزة: {طسين ميم} بإظهار النون. قال النحاس: النون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه: يبينان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء ويكونان من الخياشيم، أي لا يبينان، فعلى هذه الاربعة الأقسام التي نصها سيبويه لا تجوز هذه القراءة، لأنه ليس هاهنا حرف من حروف الحلق فتبين النون عنده، ولكن في ذلك وجيه: وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها، فإذا وقف عليها تبينت النون. قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قياسا على كل القرآن، وإنما أظهرها أولئك للتبيين والتمكين، وأدغمها هؤلاء لمجاورتها حروف الفم. قال النحاس: وحكى أبو إسحاق في كتابه: فيما يجرى وفيما لا يجرى أنه يجوز أن يقال: {طسين ميم} بفتح النون وضم الميم، كما يقال هذا معدي كرب.
وقال أبو حاتم: قرأ خالد: {طسين ميم}. ابن عباس: {طسم} قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً}.
وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. مجاهد: هو اسم السورة، ويحسن افتتاح السورة. الربيع: حساب مدة قوم.
وقيل: قارعة تحل بقوم. {طسم} و{طس} واحد. قال:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمة ** بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وقال القرظي: أقسم الله بطوله وسنائه وملكه.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: الطاء طور سيناء والسين إسكندرية والميم مكة.
وقال جعفر بن محمد بن علي: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: الطاء من الطاهر والسين من القدوس- وقيل: من السميع وقيل: من السلام- والميم من المجيد.
وقيل: من الرحيم.
وقيل: من الملك. وقد مضى هذا المعنى في أول سورة البقرة. والطواسيم والطواسين سور في القرآن جمعت على غير قياس. وأنشد أبو عبيدة:
وبالطواسيم التي قد ثلثت ** وبالحواميم التي قد سبعت

قال الجوهري: والصواب أن تجمع بذوات وتضاف إلى واحد، فيقال: ذوات طسم وذوات حم. قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} رفع على إضمار مبتدإ أي هذه {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} التي كنتم وعدتم بها، لأنهم قد وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن.
وقيل: {تِلْكَ} بمعنى هذه. {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ} أي قاتل نفسك ومهلكها. وقد مضى في الكهف بيانه. {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لتركهم الايمان. قال الفراء: {أن} في موضع نصب، لأنها جزاء. قال النحاس: وإنما يقال: بإن مكسورة لأنها جزاء، كذا المتعارف. والقول في هذا ما قاله أبو إسحاق في كتابه في القرآن، قال: أن في موضع نصب مفعول من أجله، والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الايمان. {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً} أس معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان، تخرج به العواتق من البيوت وتضج له الأرض. وهذا فيه بعد، لان المراد قريش لا غيرهم. {فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ} أي فتظل أعناقهم {لَها خاضِعِينَ} قال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم، وقال النحاس: ومعروف في اللغة، يقال: جاءني عنق من الناس أي رؤساء منهم. أبو زيد والأخفش: {أَعْناقُهُمْ} جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس أي جماعة.
وقيل: إنما أراد أصحاب الأعناق، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قتادة: المعنى لو شاء لأنزل آية يذلون بها فلا يلوى أحد منهم عنقه إلى معصية. ابن عباس: نزلت فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد معاوية، ذكره الثعلبي والغزنوي. وخاضعين وخاضعة هنا سواء، قاله عيسى بن عمر واختاره المبرد. والمعنى: إنهم إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالأخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها. ويسوغ في كلام العرب أن تترك الخبر عن الأول وتخبر عن الثاني، قال الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي ** طوين طولى وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي وترك الطول.
وقال جرير:
أرى مر السنين أخذن منى ** كما أخذ السرار من الهلال

وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط مر وطول من الكلام لم يفسد معناه، فكذلك رد الفعل إلى، الكناية في قوله: {فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ} لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام، ولأدى ما بقي من الكلام عنه حتى يقول: فظلوا لها خاضعين. وعلى هذا اعتمد الفراء وأبو عبيدة. والكسائي يذهب إلى أن المعنى خاضعيها هم، وهذا خطأ عند البصريين والفراء. ومثل هذا الحذف لا يقع في شيء من الكلام، قاله النحاس. قوله تعالى: {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} تقدم في الأنبياء. {فَقَدْ كَذَّبُوا} أي أعرضوا ومن أعرض عن شيء ولم يقبله فهو تكذيب له. {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} وعيد لهم، أي فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا والذي استهزءوا به. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} نبه على عظمته وقدرته وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم لعلموا أنه الذي يستحق أن يعبد، إذ هو القادر على كل شي. والزوج هو اللون، قاله الفراء {كريم} حسن شريف، واصل الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، ورجل كريم شريف، فاضل صفوح. ونبتت الأرض وأنبتت بمعنى. وقد تقدم في سور البقرة والله سبحانه المخرج والمنبت له.
وروى عن الشعبي أنه قال: الناس من نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً} أي فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالته على أن الله قادر، لا يعجزه شي. {وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي مصدقين لما سبق من علمي فيهم. و{كانَ} هنا صلة في قول سيبويه، تقديره: وما أكثرهم مؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} يريد المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.

.تفسير الآيات (10- 15):

{وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)}
قوله تعالى: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى} {إِذْ} في موضع نصب، المعنى: واتل عليهم {إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى} ويدل على هذا بعده. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ} ذكره النحاس.
وقيل: المعنى، واذكر إذا نادى كما صرح به في قوله: {وَاذْكُرْ أَخا عادٍ} وقوله: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ} وقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ}.
وقيل: المعنى {وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى} كان كذا وكذا. والنداء الدعاء بيا فلان، أي قال ربك يا موسى: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ثم أخبر من هم فقال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} فـ {قَوْمَ} بدل، ومعنى {أَلا يَتَّقُونَ} ألا يخافون عقاب الله؟ وقيل: هذا من الإيماء إلى الشيء لأنه أمره أن يأتي القوم الظالمين، ودل قوله: {يَتَّقُونَ} على أنهم لا يتقون، وعلى أنه أمرهم بالتقوى.
وقيل: المعنى، قل لهم {ألا تتقون} وجاء بالياء لأنهم غيب وقت الخطاب، ولو جاء بالتاء لجاز. ومثله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} بالتاء والياء. وقد قرأ عبيد بن عمير وأبو حازم {ألا تتقون} بتاءين أي قل لهم {ألا تتقون}. {قالَ رَبِّ} أي قال موسى {رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي في الرسالة والنبوة. {وَيَضِيقُ صَدْرِي} لتكذيبهم إياي. وقراءة العامة {وَيَضِيقُ} {وَلا يَنْطَلِقُ} بالرفع على الاستئناف. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيوة: {ويضيق} {ولا ينطلق} بالنصب فيهما ردا على قوله: {أَنْ يُكَذِّبُونِ} قال الكسائي: القراءة بالرفع، يعني في {يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي} يعني نفسا على {إِنِّي أَخافُ}. قال الفراء: ويقرأ بالنصب. حكي ذلك عن الأعرج وطلحة وعيسى ابن عمر وكلاهما له وجه. قال النحاس: الوجه لرفع، لان النصب عطف على {يُكَذِّبُونِ} وهذا بعيد يدل على ذلك قوله عز وجل: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} فهذا يدل على أن هذه كذا. ومعنى {وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي} في المحاجة على ما أحب، وكان في لسانه عقدة على ما تقدم في طه. {فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ} أرسل إليه جبريل بالوحي، واجعله رسولا معي ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني. ولم يذكر هنا ليعينني، لان المعنى كان معلوما، وقد صرح به في سورة طه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً} وفي القصص: {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} وكان موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم. {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} الذنب هنا قتل القبطي واسمه فاثور على ما يأتي في القصص بيانه، وقد مضى في طه ذكره. وخاف موسى أن يقتلوه به، ودل على أن الخوف قد يصحب الأنبياء والفضلاء والأولياء مع معرفتهم بالله وأن لا فاعل إلا هو، إذ قد يسلط من شاء على من شاء. {قالَ كَلَّا} أي كلا لن يقتلوك. فهو ردع وزجر عن هذا الظن، وأمر بالثقة بالله تعالى، أي ثق بالله وانزجر عن خوفك منهم، فإنهم لا يقدرون على قتلك، ولا يقوون عليه. {فَاذْهَبا} أي أنت وأخوك فقد جعلته رسولا معك. {بِآياتِنا} أي ببراهيننا وبالمعجزات. وقيل آياتنا. {إِنَّا مَعَكُمْ} يريد نفسه سبحانه وتعالى. {مُسْتَمِعُونَ} أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون. وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما وأنه يعينهما ويحفظهما. والاستماع إنما يكون بالإصغاء، ولا يوصف الباري سبحانه بذلك. وقد وصف سبحانه نفسه بأنه السميع البصير.
وقال في طه: {أَسْمَعُ وَأَرى} وقال: {مَعَكُمْ} فأجراهما مجرى الجمع، لان الاثنين جماعة. ويجوز أن يكون لهما ولمن أرسلا إليه. ويجوز أن يكون لجميع بني إسرائيل.

.تفسير الآيات (16- 22):

{فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)}
قوله تعالى: {فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ}
قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا، إنا ذوو رسالة رب العالمين. قال الهذلي:
الكنى إليها وخير الرسو ** ل أعلمهم بنواحي الخبر

الكنى إليها معناه أرسلني.
وقال آخر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ** بسر ولا أرسلتهم برسول

آخر:
ألا أبلغ بني عمرو رسولا ** بأني عن فتاحتكم غني

وقال العباس بن مرداس:
ألا من مبلغ عني خفافا ** رسولا بيت أهلك منتهاها

يعني رسالة فلذلك أنثها. قال أبو عبيد: ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع، فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي. ومنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}.
وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين. {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا. فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون فقال: ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال فرعون: ائذن له لعلنا نضحك منه، فدخلا عليه واديا الرسالة.
وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهرون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهرون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: {إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} فعرف موسى لأنه نشأ في بيته، فـ {قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً} على جهة المن عليه والاحتقار. أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا {وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فمتى كان هذا الذي تدعيه. ثم قرره بقتل القبطي بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل. وقرأ الشعبي: {فعلتك} بكسر الفاء والفتح أولى، لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك.
وقال الشاعر:
كأن مشيتها من بيت جارتها ** مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويقال: كان ذلك أيام الردة والردة. {وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} قال الضحاك أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله.
وقيل: أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك، قاله ابن زيد. الحسن: {مِنَ الْكافِرِينَ} في أني إلهك. السدي: {مِنَ الْكافِرِينَ} بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه. وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر. ف {قالَ فَعَلْتُها إِذاً} أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي {وَأَنَا} إذ ذاك {مِنَ الضَّالِّينَ} أي من الجاهلين، فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل. وكذا قال مجاهد، {مِنَ الضَّالِّينَ} من الجاهلين. ابن زيد: من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل.
وفي مصحف عبد الله {من الجاهلين} ويقال لمن جهل شيئا ضل عنه.
وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} من الناسين، قاله أبو عبيدة.
وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شي، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة. قوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص: {فخرج منها خائفا يترقب} وذلك حين القتل. {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} يعني النبوة، عن السدي وغيره. الزجاج: تعليم التوراة التي فيها حكم الله.
وقيل: علما وفهما. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} اختلف الناس في معنى هذا الكلام، فقال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم! وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
وقيل: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار، أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي ليست بنعمة؟ لان الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إلى على الخصوص؟! قال معناه قتادة وغيره.
وقيل: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره. قال النحاس: وهذا لا يجوز لان ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم، كما قال الشاعر:
تروح من الحي أم تبتكر ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء. قال: يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكي ترى زيدا منطلقا؟ بمعنى أترى. وكان علي بن سليمان يقول في هذا: إنما أخذه من ألفاظ العامة. قال الثعلبي: قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة؟ على طريق الاستفهام، كقوله: {هذا رَبِّي} {فَهُمُ الْخالِدُونَ}. قال الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الالف قولهم:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها ** وجفنها من دموعها شرق

وقولها والركاب واقفة ** تركتني هكذا وتنطلق

قلت: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس.
وقال الضحاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به.
وقيل: معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي؟ ومن أهين قومه ذل. و{أَنْ عَبَّدْتَ} في موضع رفع على البدل من {نِعْمَةٌ} ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى: لان عبدت بني إسرائيل، أي اتخذتهم عبيدا. يقال: عبدته وأعبدته بمعنى، قال الفراء وأنشد:
علا م يعبدني قومي وقد كثرت ** فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان